موجز تاريخ الدولة العثمانية – الجزء الرابع عشر
العمران في الدولة العثمانية
عُني العثمانيون بالناحية العمرانية عناية واضحة، فأقاموا شبكة واسعة من الطرق والجسور في طول الدولة وعرضها مستعينين على ذلك بمهرة الصنّاع البيزنطيين البلغار . ومع أن هذه الشبكة أنشئت، في المقام الأول، لأغراض عسكرية، إلا أنها سهّلت حركة المواصلات العامّة وأسدت إليها خدمة جليلة أيضًا. كذلك عُني العثمانيون بتشييد المدارس ومعاهد التعليم التي كانت تتسع لسكنى الأساتذة والطلاّب، وبإقامة المستشفيات والبيمارستانات ودور العجزة، وبإنشاء المطاعم الشعبية والتكايا للفقراء، والخانات التي كان التجّار الغرباء ينزلون فيها؛ وكذلك عنوا ببناء الحمامات الشعبية، والمكتبات العامّة، والمتاحف والقصور، والمساجد، وبخاصة في الآستانة وعواصم الولايات . تأثّر النمط العمراني العثماني بالأنماط الفارسية والبيزنطية والإسلامية في بداية عهده، فجاء خليطًا بينها ومطورًا لبعضها، فعلى سبيل المثال، اقتبس العثمانيون القبّة الفارسية من الفرس الساسانيون، وأدخلوا عليها بعض التعديلات حتى أصبحت سمة بارزة في معظم آثارهم المعمارية . ازدهرت العمارة العثمانية في عهد التوسع والفتوحات، ثم أصبح النشاط المعماري راكدًا كما الدولة في فترة الركود، وفي فترة لاحقة أدخل المعماريون أنماطًا معمارية من أوروبا الغربية ودمجوها مع النمط العثماني، ومن هذه الأنماط: الباروكيه، الروكوكو، والنمط الإمبراطوري.
تعتبر بعض المساجد من أبرز آثار العمارة العثمانية، ومنها: مسجد السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، وقد عهد السلطان محمد ببنائه إلى مهندس يوناني يُدعى "خريستو دولوس"، وهو من أروع آثار العمارة العثمانية وأقربها إلى الكمال. ومسجد السلطان أحمد في إسطنبول أيضًا، ومسجد السلطان بايزيد الذي يمتاز بفخامة موادّه البنائية وبزخرفته على الطريقة الفارسية . ومسجد السلطان سليمان القانوني، الذي نافس في جماله آيا صوفيا، والذي عُهد بتشييده إلى المهندس العثماني الشهير "سنان آغا". والواقع أن سنان هذا كان أعظم المهندسين العثمانيين على الإطلاق، فقد أنشأ، بالإضافة إلى هذا المسجد العظيم، عشرات المساجد الأخرى منها مسجد السلطان سليم الثاني، أو مسجد سليمية، وخمسًا وخمسين مدرسة، وسبعة عشر مطعمًا عموميًا، وثلاثة مستشفيات، وسبعة جسور، وثلاثة وثلاثين قصرًا، وثمانية عشر خانًا، وخمسة متاحف . وقد بلغ من براعة سنان آغا وبعض المهندسين الذين تلوه أنهم دمجوا في تصاميمهم النمط البيزنطي بالنمط الصيني.
اللغة في الدولة العثمانية
كان هناك ثلاث لغات كبرى سائدة في الدولة العثمانية: التركية، وهي اللغة الأم للأتراك، وقد تكلّم بها أغلبية سكان الأناضول وتراقيا، بالإضافة إلى المسلمين البلقانيين عدا الألبان وسكان البوسنة، وبطبيعة الحال انتشرت اللغة التركية بين الأشخاص المثقفين من غير الأتراك وبشكل خاص أولئك الموظفين في الدوائر الحكومية. كذلك كان للغة الفارسية انتشار محدود بين المثقفين العثمانيين، أما ثاني لغة من حيث الأهمية فكانت اللغة العربية، وقد تكلمها سكان المناطق العربية الخاضعة للحكم العثماني، بالإضافة إلى الأتراك وباقي الشعوب المسلمة في الدولة، كونها لغة الدين الإسلامي، غير أن من أتقنها وتكلمها بطلاقة كما العرب كان الطبقة المثقفة أيضًا. كانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية للدولة العثمانية، وتختلف اللغة التركية العثمانية عن اللغة التركية الحديثة، من ناحية أنها كانت أكثر تأثرًا باللغتين العربية والفارسية، واقتبست منهما مصطلحات عديدة اختفت اليوم من المعجم التركي.
انتشرت بعض اللغات الأخرى على نطاق ضيّق في الدولة العثمانية، ومنها: الكردية، والصربية، واليونانية، والمجرية، والأرمنية، والبلغارية، كذلك كان لبعض الطوائف لغاتها الطقسية الخاصة، مثل السريانية والقبطية للمسيحيين الشوام والمصريين، والعبرية بالنسبة لليهود. اقتبس العرب، وبشكل خاص الشوام والمصريين عدد من الكلمات التركية وأصبحت تشكل جزءًا من لغة التواصل اليومية في بلادهم، ومن هذه الكلمات: بصمة، وأصلها "باصماق" وتشير إلى وطأة القدم؛ "بلكي" وتعني التوقع والاحتمال؛ "بويا" أصلها "بوياغ" وتعني الطلاء؛ "جمرك" وتعني الضريبة التي تؤخذ على البضائع، "دوغري" أصلها "دوغرو" وتعني المستقيم، وتُستخدم أيضًا للإشارة في السير إلى الأمام؛ "أوضة" أصلها "أودة" وتعني غرفة؛ "برطمان" أي إناء زجاجي، وكلمات أخرى كثيرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق